ترحيب الجنوب بإسرائيل- تحالفات متغيرة ونفوذ إقليمي متصاعد
المؤلف: محمد الساعد11.18.2025

في الفترة الممتدة من عام 1978 إلى عام 1982، توغلت قوافل من الجيش الإسرائيلي في جنوب لبنان، في ظل رئاسة مناحيم بيغن للوزراء ووزارة أرييل شارون للدفاع. استقبلت شرائح من اللبنانيين الجنوبيين، لا سيما من الطائفتين الشيعية والمسيحية، "الجيش الإسرائيلي" بابتهاج عظيم، ونثروا الأرز والورود على الدبابات في ترحيب حافل، ولا تزال صوره وتسجيلاته المرئية شاهدة على ذلك حتى اليوم.
في تلك الحقبة، لم يكن "المكون الشيعي اللبناني"، ولا حليفه "المسيحي العوني"، يدوران في فلك النفوذ الإيراني، إذ لم تكن الثورة الإيرانية قد اندلعت بعد، ولم يكن الخميني قد حط رحاله من باريس إلى طهران، وهو الوصول الذي سيحدث تحولات جذرية في موازين القوى في المنطقة حتى يومنا هذا.
في ظل ظروف تلك الأيام، كانوا بأمس الحاجة إلى حليف "قوي" يتولى القيام بما يعجزون هم عن فعله ضد الفصائل الفلسطينية التي نزحت من الأردن واستقرت بأسلحتها وطيشها في جنوب لبنان. لقد رأوا في إسرائيل الحليف الذي توقعوا أن يحميهم من تلك الفصائل.
وبالفعل، تحولت إسرائيل إلى حاضنة رسمية لهذا التيار، الذي تطور لاحقًا إلى حزب الله وجيش لحد الجنوبي. احتضنتهم ونسقت معهم منذ دخول لبنان عام 1978 وحتى اجتياح بيروت عام 1982، وصولًا إلى ارتكاب المجازر البشعة، وأبرزها صبرا وشاتيلا، وهي مجازر تورط فيها الجميع. تاريخ لا يمحى ولا يندثر، وكأنه مجازر القصير السورية التي ارتكبها حزب الله، بنفس الفظاعة ونفس الأيادي، مع تغيير الراعي من تل أبيب إلى طهران.
وما إن بزغت الثورة الإيرانية في عام 1979، حتى حول المكون ذو النزعة "الفارسية" في لبنان وجهته من تل أبيب إلى طهران، ليس بغضًا في إسرائيل، بل لأن طهران الفارسية كانت الأقرب إليهم من الناحية القومية.
أما المكون المسيحي الذي تحالف مع تل أبيب في بداية الأمر، فقد بدل ولاءاته عدة مرات، متنقلًا من الإسرائيلي إلى الأمريكي إلى الفرنسي إلى السوري، حتى انشق ميشيل عون بفصيله البرتقالي، الذي وجد في التحالف مع الفارسي تحقيقًا لحلم الانتقام المشترك ضد كل ما هو عروبي، وتنفيسًا عن ضغائن مستمرة منذ ألف وأربعمئة عام.
إن من رحب بجيش الدفاع قبل ما يزيد على 45 عامًا هو من يدفع الثمن الآن، ليس لأنه عاد مكونًا وطنيًا لبنانيًا، بل لأنه أساء تقدير نفسه وأراد الخروج من تبادل الأدوار مع الإسرائيلي إلى منافسته على النفوذ في المنطقة.
واليوم، ومع وصول القوات الإسرائيلية إلى جنوب لبنان، هل سنشهد مرة أخرى إنشاء تل أبيب لجيب أمني داخل الحدود اللبنانية يؤمن عودة السكان الفلسطينيين والإسرائيليين إلى المدن في الجليل الأعلى؟ لا بد أن نتذكر أن تلك الفكرة ليست جديدة، لا على اللبنانيين ولا على الإسرائيليين. فخلال السيطرة الإسرائيلية على أجزاء من جنوب لبنان بدءًا من عام 1978، كانت هناك قوة منفصلة عن الجيش اللبناني تعمل في المناطق الجنوبية وعلى تواصل وتفاهم مع الإسرائيليين، سميت فيما بعد بجيش "سعد حداد" ثم جيش "لحد" ثم "جيش لبنان الجنوبي". فهل ستقوم تل أبيب بإنشاء قوة مماثلة، خاصة في الظرف الحالي المعادي لحزب الله؟ ودعونا نتذكر أن من يشتم جيش لبنان الجنوبي الآن، هو نفسه من رحب به وتحالف معه.
أما الأسباب التي أدت إلى نشأته في العام 1976 – قبل الاجتياح الإسرائيلي للبنان بعامين- فهي تشبه إلى حد بعيد أسباب اليوم، ألا وهي كراهية فصيل يختطف القرار اللبناني، وهو ما فعلته الفصائل الفلسطينية حينها، التي انتقلت من الأردن إلى لبنان في أعقاب حرب "أيلول الأسود" الأهلية وأدخلت لبنان في مواجهة عسكرية غير متكافئة مع إسرائيل، دون أن يكون لا الجيش ولا المكونات اللبنانية راضية عن ذلك الصدام العسكري، فضلًا عن عدم قدرتها على ضبط السلوك الفلسطيني ضد السكان المدنيين. وكأنهم حزب الله اليوم.
ولعل أهم معلومة يمكن استحضارها هي أن جيش لبنان الجنوبي تشكل من سكان جنوب لبنان "مسيحيين وشيعة"، وظلت رواتبه تصرف من ميزانية الجيش اللبناني حتى العام 1990.
لقد نظر إليه في البداية كتنظيم لبناني يقوم بما يعجز الجيش اللبناني عن القيام به، ولكن الأمر انحرف عن مساره الأساسي، وبدأ من أنشأه يتخلى عنه أو يتبرأ منه، حتى أصبح ميليشيا تابعة تمامًا لإسرائيل.
فهل سنرى بقايا حزب الله تتشكل في ميليشيا تابعة لإسرائيل، هاربة من السفينة الغارقة بعدما أضحت غير قادرة على المواجهة مع الجيش الإسرائيلي، إضافة إلى الاتهامات المتزايدة لقيادات الحزب بأنها هي من جلبت عليهم الدمار؟ الأحداث على الأرض والاختراقات الأمنية الكبيرة تنبئ بذلك، وأصبح هناك منخرطون كثر في الوشاية والحرب ضد الحزب الفارسي.
